رجل الدين‏..‏ رسالة أم مهنة؟
بقلم: د‏.‏ الأنبا يوحنا قلته
د‏.‏ الأنبا يوحنا قلته
إن لم يكن رجل الدين هو الذي يطلق طاقات الروح ويجدد نزعة السمو والنبل‏,‏ ويوقظ الضمائر‏,‏ لتشرق عليها أنوار الحب والعطاء والسلام‏,‏ فمن تراه يقوم بذلك؟
 
 
 

إن لم يكن رجل الدين صوتا لكل ماهو جميل ورائع‏,‏ وحارسا للقيم السامية‏,‏ كأنه لحن سماوي يمشي علي الأرض‏,‏ يبذر الاخوة بين البشر‏,‏ ويغرس روح التضامن والتسامح ويتقبل التعددية وهي إرادة إلهية‏,‏ في الأديان والأجناس والطبائع لايدين البشر بقدر ما يقدم لهم القدوة الصالحة‏,‏ لاينتمي إلي تطرف أو تعصب مقيت أو عنف‏,‏ أو قسوة‏,‏ فمن تراه يقوم بذلك؟
إن لم يكن رجل الدين متبحرا في علمه‏,‏ واثقا من حكمه‏,‏ متأنيا في آرائه‏,‏ متفتحا علي كل ثقافة الدنيا‏,‏ مناصرا للتقدم والحضارة‏,‏ مؤيدا لحرية الضمير وحرية العقل في التزام بثوابت الايمان‏,‏ دون اسراف أو غضب‏,‏ يدرك أن الحقيقة المطلقة الله تبارك وتعالي سبحانه جل جلال لايمتلكه عقل ولا انسان‏,‏ بل كل انسان مؤمن يصلي‏:‏ امتلكني يا الله‏..‏ كما يدرك أن الفكر الانساني في تطور وتجدد متصل‏,‏ فالثوابت تبقي وماعداها يساير حاجة الانسان ومتطلبات العصر‏,‏ فما الأديان إلا رسالة في خدمة وصالح البشر‏,‏ ولن تكون أبدا نقطة صراع أو حروب فيما يأتي من الزمان‏,‏ فالأمم والشعوب كافة عطشي للحياة الآمنة وللترقي والاستمتاع بكل أطايبها التي وهبها لهم الخالق العظيم‏..‏ إن لم يكن رجل الدين‏,‏ فمن تراه‏,‏ يعلم بذلك‏.‏ إن لم يكن رجل الدين هو أول من يطوي صفحات ماض أليم‏,‏ عانت البشرية منه عناء شديدا وسالت الدماء وسكبت الدموع أنهارا‏,‏ عاشت لقرون طويلة في مأساة الحزن والكراهية والعداء‏,‏ ويقلب صفحات جميلة‏,‏ متوهجة‏,‏ يستنبط من سطورها المنيرة أن البشر جميعا أخوة‏,‏ فهذه حقيقة لايختلف حولها اثنان‏,‏ وان الله خلقهم جميعا‏,‏ ومصيرهم اليه‏,‏ تشرق شمسه علي الاخيار والاشرار‏,‏ ويسكب نعمه علي المؤمنين وغير المؤمنين‏,‏ وحده تبارك وتعالي هو الديان‏,‏ العليم بسرائر الضمائر‏,‏ وفاحص القلوب والنوايا‏,‏ هل نظن أن الحضارات العظيمة التي نشأت قبل الأديان الإبراهيمية‏,‏ التي زخرت بالحكمة والقيم والأخلاق السامية‏,‏ لم تكن فيها نفحات إلهية مهدت عقل الانسان للأديان الموحدة‏,‏ وأن الله لم يتخل يوما عن عياله البشر‏,‏ وإنما تصحبهم أنواره‏,‏ في مسيرة التاريخ وإلا لتحول العالم إلي غابة من الوحوش الضارية وخلا من الأتقياء الصالحين‏,‏ تري ان لم يكن رجل الدين‏,‏ ينشر هذا الفكر فمن تراه ينشره؟

إذن يمكن القول ان رجل الدين صاحب رسالة لاشك في ذلك‏,‏ غير أن خلطا شديدا حدث بين المثل والنظريات من جهة‏,‏ وبين الواقع والتطبيق من جهة أخري‏,‏ ولنتوغل قليلا في التاريخ لنري كيف تحولت الرسالة حينا إلي مهنة‏,‏ وحينا إلي سلطة وحينا إلي سياسة‏.‏ وجوده من صميم الواقع البشري وفي نسيج الحاجة النفسية والاجتماعية عند الانسان‏,‏ فهل هي غريزة كامنة في الأعماق‏,‏ تبحث عنه؟ ومنذ عصور قبل التاريخ‏,‏ وحتي أيامنا أرتبط رجل الدين دوما بقضايا الغيب والمستقبل‏,‏ وأحيانا بالسحر والشعوذة‏,‏ ظل المرجع عند الملوك والأباطرة وعند البسطاء من عامة الناس‏,‏ له سطوة ونفوذ وثراء‏,‏ وفي التراث اليهودي كهنوت‏,‏ كما في التراث المسيحي‏,‏ أما التراث الاسلامي فليس فيه كهنوت‏,‏ وإنما أئمة وفقهاء وعلماء دين‏,‏ إنها ظاهرة انسانية‏,‏ وفي بعض الحضارات القديمة بلغت سطوة رجل الدين إلي حد بعيد‏,‏ ونصب رئيس الكهنة نفسه فرعونا‏,‏ كما فعل آبي رئيس كهنة آمون بعد موت توت عنخ آمون‏,‏ إن شهوة الحكم‏,‏ وجاذبية السلطة والرغبة في السيادة‏,‏ أمور مصاحبة دوما لطبيعة رجل الدين في أي زمان وأي مكان‏,‏ كما صاحبها رغبة في الثراء والتمتع بمباهج الدنيا‏,‏ ومن ثم تتحول الرسالة إن لم يكن حاملها كفئا لها ومعدا اعدادا قويا أحيانا كثيرة إلي مهنة‏,‏ تسرق ضمائر البسطاء‏,‏ وتحرك وجدانهم وتؤثر أشد الاثر في المناخ الفكري والاجتماعي بل وأحيانا تقود الجماعة الانسانية‏.‏

وتأمل معي فيما يحدث علي الساحة العربية لنري أن القضية المحركة لمجتمعاتنا الأساسية في أوطاننا‏,‏ ليست قضية بناء المستقبل‏,‏ وغربلة الماضي‏,‏ واستشراف عصر علمي جديد‏,‏ بقدر ماهي صراع ورغبة في السيادة والسيطرة‏,‏ ان هناك تيارين لا ثالث لهما يتدفقان علي العقل والوجدان العربي‏.‏
تيار الذين درسوا تاريخ الأمم وأدركوا خطر دولة رجل الدين أو الدولة الدينية وكارثة حكمهم كما أثبتتها الخبرة الانسانية منذ القدم‏,‏ وبعد أن قامت ثورة فرنسا‏1798‏ وتحررت من استعباد رجل الدين للضمير الانساني‏,‏ وتخلصت من براثن الحكم الثيوقراطي أو الحكم باسم الله والسماء والدين‏,‏ وانطلقت إلي حضارة جديدة فتغير وجه العالم‏,‏ وتبدلت سبل الحياة‏,‏ وانطلق الابداع في كل مكان‏,‏ لم تأت الثورة من فراغ بل‏,‏بيعد مخاض عسير في الفكر والفلسفة والفن والأدب خلال ثلاثة قرون‏,‏ ولا يتحقق ذلك إلا اذا سادت حرية الضمير وحرية الفكر‏,‏ وحرية التعبير‏.‏
أما التيار الثاني الذي يحاول أن يغرق مجتمعاتنا في بحار من الظلام‏,‏ ويحولها إلي مجتمعات مغلقة‏,‏ أسيرة للماضي‏,‏ يرفض الحقيقة الصارخة وينكر تقدم العلوم‏,‏ ان الانسان هو القضية وهو الحل‏,‏ وليس الحل في النظريات القديمة‏,‏ والتقاليد البالية وتلك أمور لاتمت بصلة للدين الصحيح الذي يحرر الانسان‏,‏ وجاء لخدمة الانسان‏,‏ وغايته إسعاده‏,‏ وتنظيم حياته في مجتمع العدل والمساواة والحرية‏.‏
التيار الأول يريد مجتمعا لخدمة الانسان
والتيار الثاني يريد انسانا مستعبدا للمجتمع باسم الدين‏.‏
ان الدين هو نور للسياسة لكنه ليس سياسة‏.‏
وهو نور للاقتصاد وليس اقتصادا‏.‏
ونور لعلم الاجتماع وليس علم الاجتماع‏.‏
فالسياسة والاقتصاد وسائر الأنشطة البشرية تستمد النور والعون من الدين الذي هو كنهر جارف يمد الجداول بالحيوية والتجدد‏..‏ ورجل الدين يحمل شعلة النور‏,‏ دون أن ينزلق في سياسة أو اقتصاد أو سلطة دنيوية أو ثراء دون حق‏.‏

الشعوب في حاجة إلي رجل الدين صاحب الرسالة يحمل للناس أنفاس السماء ونبضات المحبة والرحمة الإلهية‏,‏ يزرع الأمن والسلام في القلوب‏,‏ مجاله ضمير وعقل ووجدان البشر‏,‏ يحب الناس جميعا لانهم عيال الله ورسالته أن يجذبهم إليه‏,‏ إنه صاحب رسالة الحب والعدل وما أحوج العالم إلي صناع الحياة‏,‏ وبناة الرجاء وحراس الحرية‏.‏